حين تصبح الطمأنينة سجناً: الوجه الخفي للوسواس القهري

 

من الطبيعي أن يكون للإنسان عادات يومية تمنحه شعورًا بالراحة والاستقرار. قد يحب البعض ترتيب أغراضه بطريقة معينة، أو إعادة التأكد من إغلاق الباب قبل الخروج. هذه السلوكيات طبيعية، بل أحيانًا مفيدة، لأنها تعزز الإحساس بالأمان وتساعد على تنظيم الحياة. لكن السؤال هو: متى يتحول هذا الروتين البسيط إلى سجن خانق؟

الجواب يكمن في اضطراب يُعرف باسم الوسواس القهري. وهو ليس مجرد حب للنظام أو حرص زائد، بل حالة عقلية معقدة تجعل الشخص أسيرًا لأفكار متكررة وسلوكيات إجبارية. المفارقة أن المريض غالبًا يدرك تمامًا أن ما يفعله مبالغ فيه أو غير منطقي، لكنه لا يستطيع التوقف.


الأفكار التسلطية: عدو غير مرئي

تبدأ القصة عادة بفكرة صغيرة لكنها مثيرة للقلق: هل غسلت يدي جيدًا؟ هل نسيت إغلاق الغاز؟
بالنسبة لمعظم الناس، تتبخر هذه الأسئلة بسرعة. لكن لدى المصاب بالوسواس القهري، تتحول الفكرة إلى عاصفة ذهنية متكررة. الفكرة لا تغادر العقل، بل تعود مرارًا حتى تسيطر على تركيزه بالكامل.

هذه الأفكار قد تتعلق بالنظافة، أو الخوف من إيذاء الآخرين، أو حتى الشك المستمر في القرارات اليومية. وفي كل الحالات، يكون الشعور المصاحب لها قلقًا خانقًا لا يزول إلا بتنفيذ سلوك معين.


السلوكيات القهرية: مسكّن مؤقت

للتخلص من القلق، يلجأ المريض إلى سلوكيات تُعرف باسم "الأفعال القهرية". قد تكون غسيل اليدين بشكل مبالغ فيه، أو التأكد من غلق الباب عشرات المرات، أو تكرار دعاء وجملة محددة.
هذه السلوكيات تمنح راحة مؤقتة، لكنها لا تحل المشكلة. بل على العكس، تعزز الحلقة المفرغة: الفكرة المزعجة تولّد قلقًا، السلوك القهري يخففه لحظة، ثم يعود القلق أقوى، فتبدأ الدائرة من جديد.

ولهذا يصف العلماء الوسواس القهري أحيانًا بأنه إدمان للقلق. العقل يطلب المزيد من الطقوس ليحصل على شعور بالأمان، لكن النتيجة تكون استنزافًا للوقت والطاقة، واضطرابًا في الحياة اليومية.


الأسباب العلمية: ماذا يحدث في الدماغ؟

الأبحاث الحديثة تشير إلى أن الوسواس القهري مرتبط بخلل في دوائر الدماغ المسؤولة عن تنظيم الأفكار والسلوك، خاصة منطقة "القشرة الجبهية" و"العقد القاعدية". هذا الخلل يجعل الدماغ يبالغ في تقييم التهديدات البسيطة ويعيد إرسال إشارة "خطر" رغم زوال الموقف.
كما أن هناك عوامل وراثية وبيئية قد تساهم في زيادة احتمالية الإصابة، مثل تاريخ عائلي مع الاضطرابات النفسية أو التعرّض لضغوط وصدمات في مراحل مبكرة من الحياة.


كيف يمكن كسر الدائرة؟

رغم صعوبة الوسواس القهري، إلا أن الأمل موجود. من أبرز الطرق الفعالة ما يُعرف باسم أسلوب التعرض ومنع الاستجابة. يقوم هذا الأسلوب على مواجهة المريض للموقف الذي يثير قلقه، لكن دون أن يُسمح له بالقيام بالفعل القهري المعتاد. مع التكرار، يتعلّم الدماغ أن القلق يتراجع تدريجيًا من تلقاء نفسه، دون الحاجة للسلوك القهري.

بجانب ذلك، قد يُوصَف بعض الأدوية التي تعمل على تنظيم كيمياء الدماغ وتقليل شدة الأعراض. كما أن ممارسة التأمل وتقنيات الاسترخاء والدعم الاجتماعي تلعب دورًا مهمًا في مساعدة المريض على استعادة حياته الطبيعية.


الوسواس القهري ليس ضعفًا

من المهم أن نفهم أن الوسواس القهري ليس ضعفًا في الشخصية ولا نقصًا في الإرادة. إنه اضطراب نفسي معقّد يحتاج إلى وعي وفهم، ويستحق المصاب به التعاطف والدعم، لا السخرية أو التقليل من معاناته. كثيرون يظلون صامتين لسنوات بسبب الخوف من الحكم عليهم، بينما الحقيقة أن العلاج متاح والتحسن ممكن.


تنويه

هذا المقال للتثقيف فقط ولا يُعتبر استشارة طبية أو نفسية أو نفسية-عصبية. من أجل الدعم الشخصي، يُرجى استشارة مختص صحي معتمد.


#الوسواس_القهري
#الصحة_النفسية
#علم_النفس
#الوعي_النفسي
#اضطرابات_نفسية
#Psychological_net
#القلق
#الأفكار_التسلطية
#السلوكيات_القهرية
#التعرض_ومنع_الاستجابة
#الطب_النفسي
#التنمية_النفسية

Comments