هل سبق أن سألت نفسك: “لماذا أشعر دائمًا أنّي الطرف الذي يحب أكثر؟”
لماذا تبذل جهدًا مضاعفًا، وتعبّر أكثر، وتتعلّق أسرع، بينما الشريك يبدو هادئًا، متوازنًا، وربما أقل اندفاعًا؟
هذا الشعور مؤلم، لكنه ليس قضية سطحية، بل هو انعكاس لجروح عميقة تتفاعل داخل النفس، وتشكّل طريقة ارتباطنا بالآخرين.
في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذه الظاهرة النفسية: جذورها، أسبابها، آثارها، وكيف يمكن الخروج من دائرة العطاء الزائد وبناء علاقة أكثر توازنًا ونضجًا.
1. جذور الإحساس بأنك تحب أكثر
الشخص الذي يشعر بأنه “يحب أكثر” ليس شخصًا ضعيفًا أو مبالغًا في العاطفة كما يعتقد البعض. في الحقيقة، هو شخص تعلّم منذ طفولته أنّ الحب يجب أن يُكتسب، وأن قيمته تُقاس بمدى قدرته على إرضاء الآخرين.
• التربية التي تربط الحب بالإنجاز والهدوء
بعض البيئات تُعلّم الطفل أن الحب مشروط:
-
"إذا كنت هادئًا… نحبك."
-
"إذا حصلت على درجات جيدة… نحبك."
-
"إذا ما ضايقت حدا… نحبك."
هذه المعادلة القاسية تجعل الطفل يطور فكرة داخلية مفادها:
“لأستحق الحب، عليّ أن أُرضي الآخرين.”
وعندما يكبر، يدخل العلاقات العاطفية بنفس المعادلة. يعطي كثيرًا، يصمت على ما يؤذيه، يخاف أن يقول “لا”، ويعتقد أن الحب يعني التضحية والاندماج التام.
2. الخوف من الهجر… محرّك العطاء المفرط
أحد أقوى الدوافع خلف الشعور بأنك تحب أكثر هو الخوف من أن تُترك.
وهذا الخوف قد لا يكون واضحًا، لكنه يعيش داخل الجسد مثل نبض خفيف، يجعل الشخص:
-
يتسامح مع اللامبالاة
-
يبالغ في المبادرة
-
يقدّم الأعذار
-
يعتذر حتى عندما يكون المتألم الحقيقي
هذا الخوف غالبًا ليس وليد العلاقة الحالية، بل يأتي من طفولة كان فيها الفقد أو التهديد بالفقد حضورًا دائمًا.
• الشخص الذي يخاف أن يُترك… يحب بطريقة تُرهقه
هو لا يحب فقط ليعبر… بل يحب ليبقى، ليضمن، ليحمي نفسه من الوحدة التي يخشاها.
3. غياب الحدود… الجرح الذي لا ننتبه له
الحدود النفسية هي ما يجعل الحب متوازنًا.
لكن الأشخاص الذين يشعرون أنهم يحبون أكثر غالبًا:
-
لا يعرفون وضع حدود
-
لا يملكون القدرة على رفض ما يؤذيهم
-
يعتبرون التضحية دليل حب
-
يعتقدون أن الاحتياجات الشخصية “عبء” على الطرف الآخر
هذا يؤدي إلى علاقة غير متوازنة، حيث العطاء يصبح بلا سقف… والأخذ بلا التزام.
• لماذا غياب الحدود يجعلنا نشعر أننا نحب أكثر؟
لأنه يجعلنا نفعل ما لا يفعله الآخر:
نقدّم بلا توقف، نعطي بلا حساب، ونغفر بلا تفكير.
وهذا يخلق وهمًا أن الطرف الآخر بارد أو غير محب، بينما الحقيقة أن العلاقة مشوّهة منذ الأساس.
4. العطاء الزائد ليس حبًا… بل محاولة لملء نقص داخلي
قد يبدو كلامًا قاسيًا، لكنه حقيقي:
أحيانًا نحن لا نحب الآخر… بل نحب الصورة التي نشعر أنها تكملنا.
الشخص الذي يعطي أكثر غالبًا:
-
يشعر أنه غير كافٍ
-
يحمل جرحًا قديمًا بالاستحقاق
-
يحتاج من يؤكّد له قيمته
-
يخشى شعور الرفض بشكل مبالغ فيه
لذلك يبالغ في التقديم لأن فكرة أن الآخر قد لا يبادله بنفس القوة تهدد استقراره النفسي.
• الحب حين يكون مهربًا من الفراغ… يتحول إلى ألم
العلاقة لا تُداوي النقص الداخلي.
العطاء المفرط لا يملأ الفراغ.
بل يزيد الحالة تعقيدًا، لأن الطرف الآخر عادة لا يستطيع الرد بنفس الطريقة.
5. العطاء السريع يُخيف بعض الشركاء بدل أن يُقرّبهم
من الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن زيادة الحب تعني زيادة القرب.
لكن الحقيقة أن بعض الأشخاص يفسرون العاطفة الزائدة كضغط.
لماذا؟
لأن:
-
الحب السريع يخلق توقعات عالية
-
العطاء غير المتوازن يحمل رسالة “أريدك بأي ثمن”
-
بعض الشركاء يحتاجون وقتًا… بينما أنت تقدّم كل شيء من البداية
وهذا يولّد شعورًا بالتهديد بدل الأمان.
6. الحب الحقيقي لا يُقاس بكمية العطاء
الحب الناضج ليس سباقًا في التضحية.
ولا علاقة صحية تُبنى على فكرة “مَن يحب أكثر”.
العلاقة الناجحة تقوم على:
-
التوازن
-
الاحترام
-
المساندة المتبادلة
-
القدرة على قول “لا”
-
الوضوح في الاحتياجات
-
التعبير من دون خوف
-
والمساحة الكافية لكل طرف ليكون نفسه
الشخص الذي يقدم أكثر ليس شخصًا ضعيفًا… بل شخص يحتاج إلى إعادة تعريف الحب، لا إلى تقليل مشاعره.
7. لماذا تستمر في العلاقات غير المتوازنة؟
حتى لو كنت تتألم، تعود لنفس النوع من العلاقات.
تتعلق بالأشخاص الباردين، بالبعيدين، بالمنسحبين.
ليس صدفة.
بل لأن النفس تميل إلى ما يشبه جرحها.
• انجذابك ليس للعلاقة… بل للجروح التي تعرفها
العاطفة التي تنجذب إلى اللامبالاة هي عاطفة لم تشبع يومًا.
والقلب الذي يعطي كثيرًا هو قلب لم يشعر يومًا أن ما لديه يكفي.
8. كيف تبدأ رحلة التعافي من “العطاء المفرط”؟
هذه ليست نصائح سطحية… بل خطوات جوهرية تغيّر نمط الحب بالكامل.
1. تعرّف إلى جروحك القديمة
اسأل نفسك:
-
هل كنت بحاجة لإثبات قيمتي دائمًا؟
-
هل كان الحب في طفولتي مشروطًا؟
-
هل كنت أخاف من رفض أحد الوالدين؟
الفهم هو أول خطوة بنيوية.
2. أعد بناء حدودك
الحدود ليست قسوة.
الحدود هي حماية.
حدودك تقول:
-
"أنا أستحق حبًا متوازنًا."
-
"لن أسمح بأن أُستهلك."
-
"عطائي ليس إذنًا بإهمالي."
3. توقف عن إعطاء ما لا يُطلب منك
ليس عليك أن تخطط، وتفكر، وتنقذ، وتحل، وتتواصل دائمًا.
العلاقة الصحية لها إيقاع مشترك… لا “موسيقى منفردة”.
4. اسأل نفسك قبل كل خطوة: لماذا أفعل هذا؟
هل لأني أريد؟
أم لأني أخاف؟
الفرق جوهري.
5. تذكّر: الحب المتوازن لا يحتاج مجهودًا مرهقًا
الشخص الذي يريدك… سيكون واضحًا.
لن يتركك تخمّن قيمتك.
ولن ينتظر منك أن تعطي آلاف الإشارات كي يتحرك.
9. في النهاية… أنت لا تحب أكثر
أنت تحب بطريقة تعلمتها منذ زمن بعيد.
طريقة تحمل في داخلها خوفًا، حاجة، وجرحًا لم يُداوَ بعد.
لكن الخبر الجميل هو أن هذا الجرح قابل للشفاء.
وعندما تشفى، يتغير كل شيء:
-
طريقة حبك
-
طريقة اختيارك
-
طريقة رؤيتك لنفسك
-
وحتى نوع العلاقات التي تنجذب إليها
عندها لن تقول: “أنا أحب أكثر.”
بل ستقول بثقة:
“أنا أحب بوعي… وأحب نفسي أولًا.”
🔗 Linktree:
https://linktr.ee/Psychological.net
⚠️ تنويه:
هذا المقال للتوعية فقط ولا يُمثّل نصيحة طبية أو نفسية أو علاجية. يُفضّل استشارة مختص مؤهّل لأي حالة شخصية.
Comments
Post a Comment